| 0 التعليقات ]


على الرغم من هذه المحاضرة التي ألقاها الدكتور/ علي شريعتي في الثمانينات والتي جُمعت بعد ذلك في كتاب"النباهة والإستحمار" مضى عليها عدة عقود ، إلا أني أعتبرها أو بالأحرى أعتبر هذا الكتاب من أمتع ما قرأت ومن أكثر الكتب إثارة للتفكير بما يدور حولنا في المحيط وفي المجتمع من إختلاف في القضايا على كل الأصعدة .. وهو كتاب يدعوك أن تكون أكثر إنتباهاً ورغبةً إلى ما يسميه الكاتب " النباهة الفردية" و"النباهة الإجتماعية" ..

النباهة الفردية التي يجب على الإنسان أن ينتبه إليها وهي أن يعرف قدر نفسه جيداً وأن يعرف أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ولديه من جزء من الصفات الإلهية التي ميزه الله بها عن غيره من المخلوقات .. وأن عليه أن يؤمن بنفسه وعليه أن يعرف إلى أي مجتمع ينتمي وأي أمة بل وأي فترة زمنية وأي قيم يجب أن يقتدى بها .. والأعلى من هذا ما يسميه الكاتب " الوعي الوجودي" وأن الإنسان عليه أن يشعر بوجوديته وأنه يملك جزء من الصفات الإلوهية وأن لا ينتقص من وجوده ونفسه أبداً ..

والنباهة الإجتماعية هي المسؤولية الإجتماعية التي يجب أن يشعر بها الإنسان تجاه المجتمع الذي ينتمي إليه .. وأنه جزء من هذا المجتمع وشعوره كقائد يجب أن يُحرر وأن يبذل الكثير من أجل بناء هذا المجتمع .. وهذا يتنافى عن عزل الإنسان لنفسه عن المجتمع ويتنافى عن أقوال مشهورة في عمان مثل "لما تسلم ناقتي ما علي من رفاقتي" أو "مشي حالك" وغيرها من ثقافة الإنعزال عن خدمة المجتمع أو الرضا بالواقع سواء كان خيراً أو شراً .. حتى السكوت عن الفساد الظاهر وقصور المؤسسات عن خدمة المجتمع يعتبر بعيداً جداً عن النباهة الإجتماعية التي يجب أن يتصف بها الإنسان ..

المثير جداً للتفكير هي الطرق التي ذكرها الكاتب والتي بها يُصرف الإنسان عن هاتين الدرايتين الفردية والإجتماعية إلى مواضيع أقل أهمية أو بدون أية أهمية إنسانية وإجتماعية وهذه العملية التي أسماها ب "الإستحمار" .. وعرف الإستحمار بأنه: "طلسمة الذهن وإلهائه عن "الدراية الإنسانية" و"الدراية الإجتماعية" وإشغاله بحق أو باطل، مقدس أو غير مقدس" .. المثير هنا أن الأمور المقدسة كالدين أصبحت أداة للإستحمار إذا ما أُستخدم لإلهاء الناس عن الواجب الإجتماعي والإنساني الذي ينبغي للإنسان أن يسعي إليه وهذا يتنافى جداً عن الدين الحقيقي من وجة نظري .. حيث أن الإسلام كدين كان دائماً المحفز إلى حرية الناس وألى استيفاء الحقوق ونبذ الفساد ولكن أن يستخدم الدين في غير ذلك فما هو إلا أداة لقتل الإنسان من الداخل ويجعله عديم النفع لمجتمعه مجرد كائن يستقبل الأوامر من مشايخ ليطبقها بدون تفكير أو مسائلة .. أجد هنا نفسي محاطاً بالكثير من الأمثلة من الواقع العماني، كإشغال الناس بإختلاف المذاهب، وإختلاف الأهلة، فهنا تكتب البحوث وتسخر القنوات المختلفة لمناقشة هذه الأمور بدون أن فائدة تعم المجتمع والأمة ككل .. وحتى القضايا التي تُثار وتطلق لها العقول والفتاوى والتي في جوهرها ليست سوى قضايا تشغل عقول وأذهان الناس عن قضايا أكثر أهمية ..

تتطرق بعدها الكاتب إلى طرق الإستحمار وهي كثيرة منها الدين مثلما أسلفت، ومنها الزهد، الشعر، القومية، الفخر بالماضي والإعتزاز به، وهذا ما أسهبنا فيه كثيراً في عمان، أجل يجب أن نعرف التاريخ ولكن أن ننسى ما يجب عمله في وقتنا هذا، هذا يعزل فكر الإنسان وجهده عن بناء المجتمع وبناء نفسه، ومن الطرق المهمة التي تستخدمها الدول هي المعركة الإيهامية والتي توهم المجتمع بمعركة ما وفي الأخير تنتهي لصالح من إفتعل المعركة أصلاً .. كتلك التي حدثت في عمان وإيهام المجتمع بمعركته اللامنتاهية مع الدولة الجارة، ورغبة المجتمع للإنتصار للدولة والحكومة وتحويل تفكير المجتمع إلى أمور تكاد تكون فقاعية وشغل العقول عن التفكير لأمور أكبر أهمية، ولكن هذا يحدث لسبب واحد وهو أن مفتعل تلك المعارك الوهمية هو المستفيد الأكبر في شغل العقول وتوجيهها إلى ما لا يرغب لعقول الناس التفكير فيه .. هناك الكثير من الأمثلة لهذه المعارك الوهمية خصوصا في السنة الماضية 2011.

من أدوات الإستحمار أيضاً التخصص والعلم، فيعتبر الكاتب أن العلم من أجل العلم أداة إنحراف، فهذا يجعل الإنسان بعيداً عن النباهة الإجتماعية إذا لم يستخدم العلم في بناء المجتمع وخدمة القضايا الرئيسية .. والعلم من أجل العلم يجعل الإنسان منصرفاً إلى نفسه غير مهتماً بمجتمعه وخدمته وهذا ما يجعل العلم أداة إستحمار، للأسف فالأمر ذهب لأبعد من ذلك في نظامنا التعليمي فأصبحت الشهادة غاية الجميع تُعطى بها الوظائف التي من الممكن جداً أن تكون غير بناءةً للمجتمع وتعمي عقول الجميع عن أهم قضايا المجتمع .. المفارقة العجيبة أني حالياً على بعدٍ قريب من التخرج من شهادة الماجستير والتي تجعلني أعيد التفكير غاياتي التي دفعتني إلى هذه الشهادة وهل ستصرفني حقاً عن قضايا المجتمع أم أنها ستكون رافداً مهماً في كيفية نظرتي إلى الأمور ..

وذكر الكاتب أيضاً القدرة المادية والبدنية، الحضارة الإستهلاكية، الحريات الفردية، والتقليد والتبعية أدوات من أدوات الإستحمار أيضاً وهي أيضا منتشرة جداً في مجتمعنا، فما زلنا مجتمع إستهلاكي من الدرجة الأولي .. وما أكثر النداءات للحريات الفردية المتمثلة في حرية المرأه والخصوصية الفردية والتي تتعارض أحياناً كثيرة مع المصلحة العامة .. وما زالت عقول كثير من الشباب مهتمة بالتقليد والموضه، ناسية أمر المجتمع وقضاياه المهمة .. كل هذه الأدوات تنتشر بصورة أو أخرى في مجتمعنا طامسة أذهان وعقول الكثيرين مستغلة طاقاتهم في قضايا ليست في خدمة المجتمع على الإطلاق ..

الخلاصة أن الإنسان يجب أن يكون نبيهاً لكل ما يدور في محيطه فهناك الكثير أُتقن صياغته وصُنع من أجل الإستحمار أو إلهاء الذهن عن طريق أدوات عدة منها المقدس وغير المقدس .. وأن طاقات الإنسان من المفترض أن تُبذل في تحقيق الدراية الفردية والإجتماعية .. وتحقيق هاتين يتطلب الكثير من التفكير في المحيط وفي المجتمع وفي النفس أيضاً ..

كتاب جميل مثير للتفكير، أضعه بينكم لعله يكون نقطة بداية لتفكير حقيقي يبني المجتمع ويحقق رفعته وقوته .. ويدحض قضايا لم ولن تبني لبنةً واحدة في هذا الوطن ..

http://rashf.com/books/?page=book&id=12788

0 التعليقات

إرسال تعليق