| 0 التعليقات ]

الخميس 17/11/2011

الساعة الحادية عشرة مساءاً



ليست هذه هي الزيارة الأولى لهذه البلد العظيم "الهند" فلقد سبقت لي الزيارة في عام 2009، في كلتا الزيارتين كان لحيدر أباد النصيب الوحيد وليس لأي مدينة أخرى .. ربما هو التواصل الديني بيننا وبين هذه المدينة التي يصل عدد المسلمين فيها بأكثر من 41% .. على العموم، رغبت أن أدون هذه الأيام القليلة في هذا الدفتر الإلكتروني ..

الرحلة كانت متعبة غالباً، من لحظة الوصول في المطار إلى هذه اللحظة، ربما هذا يتوافق مع الرتم العجيب لهذه المدينة المزدحمة .. الأغلبية في عمل ليل نهار بدون توقف .. لا أحب المجاملة ولهذا فإني أعترف بأني لم أحب هذه المدينة فليس هناك ما يدفعني إلى حبها .. فبمجرد خروجي إلى شوراعها المكتظة جداً بالناس والمخنقة بدخان سيارات الأوتو "التُك تًك" والحافلات، والمليئة بمياه المجاري النتنه، يأخذني عقلي إلى شوراع عمان النظيفة لأجد الفرق العجيب الكبير، لأنتهي بأمنية رجوعي إلى الوطن في أقرب وقت لأنعم بالراحة والإسترخاء ..

والمزعج الآخر هو كثرة السؤال لبقشيش هنا وهناك، وهذا ما أزعجني كثيراً، فهذا يتنافى من المباديء التي نشأت عليها، وعلى الرغم من كثرة سفري فإني لم أعتاد أن أجد عيون كثيرة تراقب حركة الأيدي متمنيه بأن تأخذ مجراها إلى الجيب .. هذا يحدث كثيراً في فندق الأربع والخمس نجوم وفي مستشفيات ومراكز تجارية كبيرة، ولعلك لا تجده مع الإنسان البسيط في الشارع .. هذا الإزعاج المتكرر يجعلك متردداً في طلب أي أمر كان سواء في الفندق في المستشفى أو في الشارع .. فلأنك غريب الهيئة فأنت مراقب من عيون كثيرة .. وعلى الرغم من هذا فستجد نفسك مرغماً على مناولة الكثيرين فليس لديك خيارات كثيرة، وعليك الحذر إن كنت ليس جيداً في صرف العملات، فذلك قد يؤدي بك إلى أقرب آله صرف بعد يوم واحد، ومؤكداً أنك ستكون المشهور في ذلك المكان وسيتهافت عليك الكثيرين ليس محبة فيك ولكن محبة في حفنة من المال..

في الجانب المدهش .. يمتاز الشعب الحيدرأبادي الهندي بطول البال وسعة الصدر، فالبرغم من الإزدحام الشديد الذي لا يدع مكاناً لقوانين شرطية تنظم المرور، فإن سلاسة المرور والقليل من التوقف هنا وهناك لمدعاة للإستغراب والدهشة، والأغرب من ذلك هذا الإنسان الذي لا ينزعج ولا يقلق بما يحدث في الطرقات فالكل مشارك في تنظيم حركة السير.. بالنسبة لي فالقيادة هنا أمر مستحيل فنياً ونفسياً .. من الممكن أن عدم تدخل الشرطة كثيراً في تنظيم حركة المرور برمج هؤلاء الناس في خلق نظام وبرتوكول عرفه الجميع وأتفقوا على تنفيذه ولكنه لم يُكتب في أنظمة الشرطة الرسمية .. هذا البرتوكول في السير العشوائي في طرقات بسيطة تتمتع بقياسات فنيه بسيطة، ويمر فيه كل كائن: الإنسان والحيوان والجماد، أثبتت جدارتها من حيث حفظ الجميع من الأذى، فخلال إقامتي هنا لم أشهد أي حادث سير أو حتى مناوشة مرورية .. عجيب هذا البلد .. ربما يجدر لشرطة عمان السلطانية التفكير في تحرير قيود المخالفات والأنظمة المرورية لعل ذلك يجدي نفعاً في التخفيف من قضايا المرور ..

وجانب آخر مهم .. بالرغم من هذا الفقر والجهل المنتشر في هذه البقعة من العالم، فإننا نجد فيها أعظم الأطباء ومهندسي الحاسوب والبرمجة، دولة تمتلك تكنولوجيا نووية صنعتها بنفسها وغيرها من الصناعات الكبيرة، هذا التناقض العجيب يجعلني أتساءل ماذا وكيف حدث هذا فعلاً ؟!! ولماذا لا زلنا نحن كدول النفط الغنية متأخرين، لا زلنا دول إستهلاكيه بالعلامة الكاملة .. نعم فالقوة البشرية المتمثلة في أكثر من بليون إنسان موجود في الهند من الممكن أن تكون سبب من أسباب هذا التقدم الذي من المفترض أن يكون طبيعياً .. فوجود القوة البشرية يجعل إنتاج وتقدم الدول سريعاً إذا ما أُستغل إنتاج كل فرد بفعالية ووجد لكل فرد المكان المناسب لهذا الإنتاج .. وبالطبع ففي وطني ليس هناك من القوة البشرية الكبيرة التي من الممكن أن تحدث هذا الفرق، وحتى بوجود هذه الأعداد القليلة نسبياً للسكان في وطني لا زلنا لسنا قادرين على إستغلال القدرات بفعالية جيدة ولسنا بقادرين على توفير الأماكن المناسبة لإستيعاب هذه الأعداد وهذا يدل على وجود مشكلة أكبر من مشكلة القوة البشرية .. من وجهة نظري فإن أهم أسباب التأخر (هذا لا يعني إنعدام التنمية ولكن بطء التنمية) في وطني هو عدم وجود أوبالأحرى عدم وضوح الرؤية الشاملة الرئيسية المستقبلية للوطن، ففقدان هذه الرؤية أو حتى عدم وضوحها يجعل العمل الوطني الحكومي أو الخاص عشوائياً يفتقد إلى أهداف موحدة تجعل مسيرته متخبطة الخطى، ويجعل المسيرة التعليمية متخبطة جداً في مساراتها وأهدافها ولا تعلم ماذا تريد لأبناء هذا الوطن أن يكونوا في المستقبل .. والمعلوم أن العلم هو أساس تقدم ورقي أي حضارة كانت .. وبتقدم العلم تتقدم كل الجوانب الأخرى .. إذناً لا بد من وجود هذه الرؤية ولا بد من وضوحها للجميع حتى يتأتى تحقيق أهدافها ويجعل العمل الوطني فعالاً ويجعل الأهداف واضحة للتعليم وللمجالات الأخرى من مجالات التنمية .. هذا الفرق الكبير بين دولة كالهند فقيرة في مواردها وكثيرة في عدد سكانها وبين دولة كعمان غنية هي مواردها وقليلة في عدد سكانها، هذا الفرق الواضح يستدعي الدهشة والحسرة أحياناً ..

في الأخير .. ما هي إلا تجربة أخرى من تجارب الحياة، وفي السفر مُتعٌ كثيرة والمشاهد التي نراها تضيف إلينا الكثير وتفتح لنا آفاق كثيرة من المعرفة التي لا تُنال من الكتب أو المواقع الإلكترونية، فالواقع يحكي حكايات كثيرة مختلفةً غالباً عن ما تحكيه الكتب والقنوات المعرفية المختلفة .. سأودعك أيتها العظيمة التي لم أحبك يوماً ولربما يرجع الحديث بيننا في المستقبل، فلعلك ستجدي الطريق إلى قلبي غداً..

0 التعليقات

إرسال تعليق